أجيال أكاديمية قادة الوطن من هذه المدرسة

استطلاع : صادق جمال بن عزون

     المدرسة الوسطى بحضرموت صرح تعليمي ثابت أساسه في الأرض وفروعه نجوم وكواكب في قبة السماء الزرقاء أينما تولي وجهك تجدهم في الدرجات العلى.

    بينما كنت أطوف في ثنايا مبنى المدرسة المتهالك وغرف صفوفها متأملا تاريخها القديم وكيف بنيّ هذا الصرح العظيم ومتخيلا في أعماق ذاكرتي مشاهدً كيف كان سيير العملية التعليمية فيها وتفوح في مخيلتي رائحة الزمن الجميل من جدرانها إذ وفي برهة من الزمن التقطت أذني بعض المعلومات التاريخية عن المدرسة وجذورها من القائمين على المبنى إذ تحدثوا قائلين :

   أن المدرسة الوسطى في بداية الأمر تأسست في مدينة المكلا ثم انتقلت فصولها الثلاثة الأولى إلى مدينة غيل باوزير في محافظة حضرموت بين عامي 41-1942م لتحتل هذا المبنى الذي كان يسمى ( قصر الأزهر ) كمدرسة داخلية يتوافر فيها كل ما يحتاجه الطالب، حيث أن أول من بنى قصر الأزهر هو الأمير منصر بن غالب القعيطي في عام 1890م وأعتبرت المدرسة الوسطى آنذاك أول مدرسة على مستوى محافظة حضرموت ومن أوائل المدارس سباقة التأسيس على مستوى الجزيرة العربية، وقد تعاقب على إدارتها عدد خمسة مدراء ممن يشهد لهم بالحكمة والدراية والمعرفة، ثلاثة منهم مدراء حضارم وأثنان ممن يحملون الجنسية السودانية ، والغريب في الأمر أن أول مدير أستلم إدارتها سوداني الجنسية وهو الشيخ حسين أفندي غوجلي ويعود السبب لذلك أن دولة السودان من الدول السباقة في المجال التعليمي انذآك ، وتناوبَ على الإدارة عدد سبعة مدراء بالنيابة، منهم أيضا اثنين ممن يحملون الجنسية السودانية، وأمتلك المدرسون الذين تعاقبوا العمل بهذه المدرسة خلال سنواتها المضيئة، الكفاءة والمهارة والمعرفة بكل العلوم ومنها اللغة العربية والإنجليزية والأدب والشعر، وقد شد انتباهي الصرامة في الدراسة إذ انهم كانوا يلزمون الطلاب حفظ المعلقات السبع، وكان عددهم بالتعاقب ثمانون مدرسا من مختلف الجنسيات.

     أحتضنت المدرسة أيضا ضمن طواقمها عددا من الأطباء ـ الكتاب ـ المدربين - الطباخين والمراسلين حيث أن المدرسة كانت دار حاضنة تأوي طلابها طيلة فترة دراستهم فيها ولهذا السبب تواجد المراسلين في أواسط الهيئة الإدارية ككل وأيضا تواجد من ضمنهم سيده واحده على مستوى المدرسة تسمى السيده قرنفل إذ كانت وظيفتها " طحانه وخبازه " .

    وقد قدمت الدفعة الأولى من الطلاب من مدينة المكلا الى غيل باوزير في شهر مايو من عام 1944م وكان عددهم ستة طلاب فقط وقد تضاعف العدد بالنسبة للدفعة الثانية وهكذا تواليك وحتى الدفعة الخمسة والعشرين وهي الدفعة الأخيرة التي تخرجت من المدرسة قبل الإستقلال، وكان عدد الطلاب الخريجين التقريبي للدفع ال25 كاملة750 طالبا من جنسيات مختلفة منهم من سلطنة عمان ومنهم من دولة إندونيسيا وغيرهما.

    وعندما نتحدث عن سير العملية التعليمية فقد سارت المدرسة حينها على برامج منتظمة يلتزم بها الطلاب وهذا ماجعل للمدرسة الوسطى شهرة واسعة على مستوى الجزيرة العربية وخارجها أيضا ، إذ كان عندئذ يتم تقسيم الطلاب في المدرسة الوسطى إلى ثلاثة منازل وهي : منزل الأحقاف، منزل الوادي، ومنزل الينبوع، اما بالنسبة لأنشطة المدرسة فقد حازت على الاهتمام الكبير من قبل إدارة المدرسة حيث عملوا على تنظيم أنشطة لاصفية ومنافسات وتصفيات موسمية دورية تقام في الصباح الباكر في عدد من الرياضات والألعاب المختلفة منها الغولف والهوكي وكرة السلة والطاولة لكنها بدورها هذه الألعاب لم تلهي الطلاب عن القيام بواجباتهم الدراسية إذ كانت المذاكرة والمراجعة للطلاب لها أهمية كبرى في البرامج المنتظمة حيث خُصص للطلاب ساعتين يوميا للمذاكرة والمطالعة قبل ذهاب الطلاب للنوم.

     أما بالنسبة للدراسة فقد كان منهج المدرسة الوسطى يمكن تشبيهه في حاضرنا بالمناهج الجامعية، وكان الطالب حينئذ على درجة عالية من الذكاء منذ أن كان في الصف الثاني يتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة، ويسعني أن أذكر مثال حي على ذلك إذ كان الدكتور فرج بن غانم رئيس الوزراء الأسبق ـ حينما كان طالبا بالمدرسة ـ يخطب في أنشطة المدرسة باللغة الإنجليزية منذ الصف الثاني ، وقد أحتوى كل صفا دراسيا بالمدرسة مكتبته الخاصة به وكتبه الخاصة بالإضافة لوجود المكتبة العامة بالمدرسة ، وأيضا وجود الجريدة الحائطية التي يصدرها الطلاب باللغتين الإنجليزية والعربية ، وقد صادفتني معلومة مهمة وأنا مستمعا وهي أن المدرسة تُخبى بداخلها إلى يومنا هذا خزينة تحتوي على دراهم وسبائك من الذهب والفضة ووثائق ومستندات مهمة تخص بعض الأهالي القاطنين في مدينة غيل باوزير، وقد حاول بعض المجرمون طيلة السنين فتحها لكنهم لم يتمكنوا وإنما تمكنوا في الزمن القديم وبقوة السلاح على الإستيلاء على كل ماهو ظاهر لهم في المدرسة.

    وقد نشد عن المدرسة الشاعر خالد عبد العزيز بيتا شعريا قال فيه: كل المدارس تشابهت لكن وسطى الغيل شكل ثان. •

     أجيال أكاديمية وأخرى قيادية تخرجت من المدرسة الوسطى: من المهم جدا أن أذكر بعض الأسماء البارزة التي تخرجت من المدرسة الوسطى و أصبحوا نخبة من الشخصيات القيادية والأكاديمية منهم القادة والسفراء والكتاب والشعراء والفنانين والأكاديمين منهم من رووي ثراه ومنهم لايزال يعاصر وقتنا الحاضر ويخدم الأمة بعلمة وخبرته وهم :محمد عبدالقادر بامطرف ،حيدر العطاس،فيصل بن شملان، عبدالله البار،صالح منصر السييلي، عبدالرحمن بافضل، والرئيس الأسبق والأخير لدولة الجمهورية اليمنية الشعبية الديمقراطية قبل الوحدة وقيام الجمهورية اليمنية وهو الرئيس علي سالم البيض .

     وفي عام 1958 للميلاد وبعد أن ضاق الخناق على أهالي غيل باوزير من قبل الاحتلال البريطاني قامت انتفاضة شعبية أحرق فيها العلم البريطاني وسيارة تابعة للاحتلال، وامتدادا لتلك الانتفاضة تحركت مجموعة من طلاب المدرسة إلى عدن لمشاركة أخوتهم في تلك الانتفاضة والتحمت كل المدارس عندئذ ضد الاحتلال البريطاني.

    فقد امتدت شهرة المدرسة الوسطى إلى نواحٍ كثيرة وكان الناس يأتون إليها من كل فج وصوب للمشاركة في حفلها السنوي والذي كان بمثابة ( العيد السنوي ) للمدرسة والذي يشارك فيه العديد من السفراء والأدباء والفنانون والقادة .

    ولكن للأسف الشديد وبعد الاستقلال أصاب مبنى المدرسة الإهمال الشديد وتشققت جدرانها وبدأت تتهاوى وتركها الحكام ومن هم معنيين بأمر البلاد للزمن ليستأصلها ويمحي ملامحها التاريخية الأثرية التي تحكي الكثير عن الأرض والحياة.

    وثم وبعد الاستقلال وفي الأول من سبتمبر من عام 1996 تحول مبنى المدرسة إلى مركزا ثقافيا للأنشطة التربوية والتنموية على يد المؤسس للمركز الأستاذ محمد سعيد مديحج وهو أحد طلاب المدرسة الوسطى.

    وبعد أن استمعت لهذه المعلومات التاريخية القيمة من القائمين على المدرسة وتدويني لها أخذت أطوف أنا وزملائي المرافقين في ممرات المبنى الضيقة وساحته البرحة الوسيعة المفتوحة الذي يتمركز فيها مسرح المدرسة آنذاك، طائفا على أجنحة المركز الثقافي المختلفة للاطلاع على ما يحتوية المركز من الموروثات من الصناعات والحرف الشعبية التراثية التقليدية والفنون الجميلة ، إذ أن المركز الآن يقدم خدمات جليلة لأبناء حضرموت عامة وأهالي غيل باوزير على وجه الخصوص وقد كان تحويل المبنى إلى المركز الثقافي لا يعني التنكر لدور المدرسة الوسطى وطمس تاريخها العتيق، إنما يعتبر امتدادا لذلك الدور التنويري والتعليمي.

    والأكثر جمالاً وجاذبية في المركز أنه يملك فرقة متميزة للفنون الشعبية، حيث شاركت هذه الفرقة في مهرجان اكسبو الدولي في المانيا وقد جذبت إهتمام الألمان وإعجابهم الكبير، وفي عام 2001م شارك المركز بفرقته للفنون الشعبية في مهرجان مسقط بصلالة وحازت على المركز الأول .

   أن المركز الثقافي يعد قِبلة للكثيرين من الزوار والباحثين والمهتمين من داخل اليمن وشبة الجزيرة العربية ومن الدول الأجنبية، وما يحيرني ويحير القائمين على المركز هو أن وجود المركز وما يملكه وما يقوم به غير معروف للكثيرين، ولم تعره الجهات الحكومية المتعاقبة الاهتمام الذي يستحقه المركز، وبعد أن أكملت جولت في فضاء المبنى وأنا أملك قدر كبير من المعرفة عن تاريخ تراثي العتيق وملامح وجهي الحزينة لما آلـآ إليه المبنى.