الأحزاب السياسية وبناء الأوطان ...

بعد تجربة سياسية نيفت على الخمسين حولا من العمر ، أدركت أمورا كثيرة لم أكن أتنبه إليها في زمن جموح الشباب إذ كان يرافق نزوة الشباب الطيش مايجعل العقل يصدق شيئا من الأوهام ، ويجعل القلب  يؤمن بشيء من تلك الخزعبلات التي يسطرها بعض الفلاسفة والمفكرين ، ثم ينشرها أو يروج لها الساسة بين البسطاء والعامة ، فتصبح من المسلمات في عقول الجوعى والفقراء والمساكين وبادي الرأي ، فضلا عن التنظير لتلك المسلمات والدفاع عنها في منتديات القوم ومواطن تجمعاتهم من المنتفعين والمتنفذين حتى لايأتي اليوم الذي قد يستفيق القوم فيه من غفلتهم أو يصحون من سباتهم ...    ولكي لا أسرف في التمهيد فيمل القارئ الكريم ، أعود لموضوع سردية الليلة ...  إن مشروع بناء المكونات الحزبية الوافد من الغرب المسيحي لم يكن مشروعا حضاريا _ على الأقل من وجهة نظر الكاتب _ كما يروج له صانعوه إذ تجدهم يذمون القبيلة ، وينتقصون من قوانينها الوضعية ، ومعتقداتها التشريعية ، من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر ؛ يعيبون على القبيلة التعصب لمنتسبيها وإن خالف ذلك الحق ، والدفاع باستماتة على سيادتها في أرضها ، وعدم التفريط في مصالحها الضرورية ؛ كالماء والمرعى وغير ذلك من الأسباب التي توفر لها استمرارية الحياة بعزة وكرامة ...

   لكن المفارقة التي لم أجد لها مسوغا مقبولا هي أن الأحزاب تكونت على وفق دساتير وأنظمة وقوانين ولوائح ربما كانت أكثر جورا وأشد ظلما من تشريعات القبيلة إذ تجد الحزب يرفع الشعارات واللوائح المعبرة عن نقل القوم من جهنم إلى جنان الخلد وهو في الحقيقة لايريد لهم غير السعير الدائم ، وتجد الحزب أيضا يَعِد القوم بالحرية والمساواة وتوفير العيش الرغيد للجميع ، غير أن الممارسة والسلوك غير ذلك إذ يتعصب الحزب لأعضائه بل للنخبة منهم  فقط ، ويوفر العيش الرغيد للكبار من منتسبيه وحسب بل وبما هو أسوأ من سلوك القبيلة على حد علمي ، وكذلك يقولون إن الأحزاب السياسية تحقق العدل والمساواة والحكم الرشيد وغير ذلك من الأكاذيب والأوهام ، والحقيقة إن ذلك يتحقق نسبيا بصلاح الحاكم الذي يكون على رأس السلطة في أي بلد ، ومن الأمثلة نأخذ الخليفة عمر بن عبد العزيز إذ حقق العدل والعيش الكريم للأمة الإسلامية كلها في زمن زهيد ، فهل قدّمت الديمقراطية الحزبية شيئا من عدل الخليفة الزاهد ؟ كتأميمه الكثير من ممتلكات أهل بيته ، إذ وصل به العدل إلى تأميم الكثير من  فساتين زوجته وزينتها وإعادتها إلى خزينة الدولة ؟؟؟ وهل هناك زعيم من زعماء الديمقراطية يستطيع منافسة الزعيم الدكتاتور _ على حد زعمهم  _ جمال عبد الناصر إذا قمنا بعملية استفتاء شعبي في أوساط من يحكمان ؟؟؟ لذلك لا أجد فروقا حقيقية بين الحزب والقبيلة إلا ماكان من بعض القيم النبيلة في تشريعات القبيلة ؛ كإكرام الضيف وإغاثة الملهوف وإجارة المستجير ، والتعامل بصدق وشفافية ، الأمر الذي لاتعرفه الأحزاب ...

    ومن هنا حق لنا أن نسأل ، إذن كيف تستطيع الأحزاب أن تبني الأوطان إذا ماوصلت إلى أعلى هرم السلطة طالما ومعايير انتقاء القادة لديها تقوم على اختيار الأعضاء الأكثر ولاء للحزب وليس الأكثر كفاءة للقيام بالبناء ؟؟؟ ومن هنا نستطيع القول : إن الحزب  يتعصب لمنتسبيه من غير ماحق في كثير من الأوقات ، وعادة مايقوم الحزب في تشكيلاته على أغلبية نخبوية يتعصب لها في الغالب قرويا وجهويا ومناطقيا أكثر مما قرأناه وعلمناه من عصبية القبيلة في الجاهلية الأولى  ......

 لانقول هذا القول تعصبا للقبيلة ولكن لإبراز  دهاء  الغرب الذي أوهم شعوب وأنظمة العالم الثالث بأن القبيلة هي التخلف والأحزاب هي التطور والتقدم  مع أن الأحزاب أصبحث أكثر تعصبا من القبيلة ......