فارس العدني
لم تعد الأزمة اليمنية، بعد أكثر من عقد على الانقلاب الحوثي، مجرد صراع على السلطة أو خلاف سياسي عابر، بل تحوّلت إلى اختبارٍ أخلاقي وسياسي قاسٍ كشف حدود النخب وقدرتها على تحمّل المسؤولية الوطنية. فقد أفضى العجز المزمن، والصمت المريب، الذي لازم غالبية القوى والنخب السياسية في الشمال، إلى إسقاط الدولة عمليًا، لا بوصفها مؤسسات فحسب، بل بوصفها فكرةً ووظيفةً وقدرةً على تمثيل الإرادة الوطنية وحماية السيادة. عشر سنوات مضت دون أي تحرك جاد لاستعادة الدولة أو تحرير المناطق الخاضعة للحوثي، مقابل خطابٍ إنشائي يبرر الفشل ويغلف الاستكانة بشعارات كبيرة فقدت معناها.
هذا العجز لم يقف عند حدود السلبية، بل تجاوزه إلى سلوك سياسي منحرف، اتخذ من التحريض على الجنوب وسيلة للهروب من مواجهة العدو الحقيقي. ففي الوقت الذي كان يفترض أن تُحشد فيه الجهود ضد مشروع الحوثي الإيراني، انشغلت نخب شمالية ببكائيات لا تنتهي، وباستجداء الخارج، وبإثارة الصدام بين الأشقاء، مدفوعة بأحقاد سياسية متراكمة وفشل ذريع في إنتاج أي مشروع وطني قابل للحياة. الأخطر أن بعض هذه القوى لم تعد تخفي تشابك مصالحها، سرًا أو علنًا، مع مليشيات الحوثي، وهو ما أقر به قادتها وروّج له ناشطوهم بخطاب مسموم، يعكس انحدارًا أخلاقيًا قبل أن يكون سياسيًا.
أمام هذا المشهد، تآكلت فكرة الشراكة، وسقطت عمليًا مقولة الوحدة بوصفها إطارًا جامعًا قادرًا على حماية الجميع. لم تعد الوحدة مشروعًا حيًا، بل تحولت في واقع الممارسة إلى غطاء لفظي لعجزٍ بنيوي، وإلى أداة ضغط تُستخدم ضد الجنوب كلما حاول الدفاع عن نفسه أو المطالبة بحقوقه. وهنا، لم يعد السؤال: لماذا يتجه الجنوبيون نحو استعادة دولتهم؟ بل: ما الذي بقي لهم داخل معادلة أثبتت فشلها الكامل؟
حتى الجنوبيون الذين ظل في نفوسهم شيء من التمسك بفكرة الوحدة، أو الرهان على إصلاحها، يجدون أنفسهم اليوم أمام واقع لا يترك لهم هامشًا كبيرًا للاختيار. فإما الارتهان لعجزٍ مزمن، ونخبٍ مستكينة لا تملك فعلًا ولا إرادة، أو الانحياز لمسار جنوبي واضح المعالم، يسعى إلى استعادة الدولة وبناء كيان سياسي قادر على حماية الأرض والإنسان، وتمثيل الإرادة الشعبية بعيدًا عن الوصاية والفشل المتراكم.
إن التوجه الجنوبي، في هذا السياق، لا يُقرأ بوصفه نزعة انفصالية أو موقفًا عاطفيًا، بل باعتباره نتيجة سياسية وأخلاقية لفشل الشراكة، واستحقاقًا تاريخيًا فرضته الوقائع على الأرض. إنها لحظة اختيار حاسمة، لا تحسمها الشعارات ، بل تحسمها القدرة على الفعل، وتحمل المسؤولية، وبناء مشروع واقعي يعيد للسياسة معناها، وللدولة وظيفتها، وللإنسان كرامته